نقف اليوم، في هذا الجمع الكريم، لتأبين والترحم على روح أخينا وصديقنا ومحامينا اللامع جيل ديفير، الذي غادرنا إلى دار البقاء، تاركا إرثا رائعا سيبقى منقوشا بشكل خالد، نفوس عائلته وأصدقائه المقربين، لكن أيضا، وربما أساسا، في ذاكرة الشعبين الصحراوي والفلسطيني وذاكرة كل محب للعدل والسلم وإقرار القانون في العالم. أعتبر نفسي محظوظا اليوم، إذ أستطيع، بموجب الصداقة والأخوة والتعامل عن قرب مع المرحوم، أن أقدم شهادتي عنه كإنسان، تحس منذ البداية وكأنك تعرفه لسنوات طويلة بسبب تواضعه، كرمه، معرفته الواسعة بثقافات العالم وقربه وتعامله مع الجميع على قدم المساواة، حتى خلال أصعب مراحله مرضه. مرضه الذي خصني، ربما أكون لوحدي حينها، لا أدري، بمعرفة طبيعته الخطيرة والمعقدة منذ سنوات وظل يواجهه ليس بشجاعة استثنائية ولكن أيضا بتقبل وفهم خاص، ينسجم فيما يبدو مع فلسفته في الحياة، إذ لا يعطي للأمور أكثر مما تستحق، ويسعي فقط أن يظل ملتزما بمبادئه التي آمن بها، في الحياة كما في العمل. لقد كان مواطنا صالحا في هذا العالم، لم يكن مواطن بلد معين، كان أكبر من أن تشمله جغرافيا بلد محدد. لقد كان العالم وطنه. وفي ما استطعت أن أفهم من لقاءاتنا العديدة، كانت روحانية الفقيد وإيمانه العميق أوسع من أن تسعه جدران دين محدد. لقد كان يعبد الإنسانية بقيمها الصافية، برسائلها الإلهية الأصلية القائمة على ثنائية العدالة والتسامح. لقد كان لي حظ مرافقة الفقيد، ومكتب محاماته المقتدر، خلال السنين الأخيرة بعد وفاة القيادي الصحراوي أمحمد خداد الذي كان له، رفقة الفقيد، الدور الأكبر في المكاسب القانونية الكبرى التي حققتها القضية الصحراوية، وآخرها قرارات محكمة العدل الأوربية التاريخية يوم 4 اكتوبر 2024، والتي ألغت المحكمة بموجبها الاتفاقيات الموقعة بين المغرب والاتحاد الأوربي بسبب شموليتها للصحراء الغربية، وهي الإقليم “المختلف والمتمايز” عن المملكة المغربية، دون الحصول على موافقة الشعب الصحراوي، تتويجا لمسار طويل من الطعون والطعون المضادة. طيلة تلك السنوات، أظهر الفقيد جيل دوفير مهنية عالية، ذكاء حادا واستماتة كبيرة في إدارة المسار أجبرت الخصوم من فريق محاماة الأطراف الأخرى إلى التوجه إليه في نهاية جلسات أكتوبر 2023، وقد كنت أنا ومانويل بجواره، لتهنئته وللإعراب له عن إعجابهم وتقديرهم لمهنيته وذكائه وقدرته على المحاججة. ومع مرور الزمن، من سنة 2012 إي سنة 2024، بدأ طغيان شخصية القانوني والمحامي الصارم تنسحب تدريجيا فاسحة المجال أمام شخصية المتضامن القوي الذي تبنى قضية تقرير مصير الشعب الصحراوي وكفاحه من أجل الحرية، جزءا محوريا من كفاحه الإنساني لإقرار الحق والعدالة في العالم. تماما كما هو الحال مع نضال الشعب الفلسطيني، الذي آمن به وقطع على نفسه عهد الدفاع عنه، حتى آخر رمق. كمسلم، لا اعتراض على مشيئة الله، بالرغم من احساسنا بالمرارة والحزن العميقين لفقدان قامة صديقة من وزن جيل ديفير، وفي هذ الوقت الصعب الذي تمر به القضيتان الصحراوية والفلسطينية. وعزاؤنا الوحيد أن مرضه لم يقعده عن مواصلة الدفاع عن قضايا الشعبين، والمصادفة الجميلة أن أبرز مكسبين في تاريخه المهني حدثا في ذروة مرضه، بل أسابيع فقط قبل وفاته، وهما “قرارت محكمة العدل الأوربية 4 أكتوبر 2024 فيما يتعلق بالصحراء الغربية، وقرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرتي اعتقال بحق ناتانياهو وغالانت 21 نوفمبر 2024 فيما يتعلق بفلسطين. لم يمت قبل أن يرى تتويج سنوات من التعب والمكابدة وقد جسد على أرض الميدان. في آخر مكالمة لي معه، وهو يحدثني عن تطور العلاج قال لي بالحرف الواحد: “بغض النظر عما سيحدث، حين أذهب، سأذهب وقد ساهمت، على قدر ما استطيع في رفع الظلم عن الشعبين الصحراوي والفلسطيني، ليس هناك شخص خالد”. بالتأكيد ليس هناك شخص خالد، لكن إرث الرجال العظماء وذكراهم يبقى خالدا، تماما كالمقطوعات الموسيقية الجميلة التي تبقى تتردد لأجيال وقرون.. لقد كان جيل دوفير، وسيبقى اللحن الخالد الذي جمع بين قضيتين، وسيبقى يتردد في مسامع وصلوات الشعبين إلى الأبد. لقد كلفني الرئيس الصحراوي إبراهيم غالي، أن أبلغكم جميعا تعازيه الحارة ومواساته لجميع أفراد العائلة وأصدقاء الفقيد وأنه قرر، باسم الشعب الصحراوي، منح وسام الشرف الأعلى للمتضامنين الدوليين للفقيد جول ديفير، وأن مناسبة خاصة ستنظم لاحقا لهذا الغرض في مخيمات اللاجئين الصحراويين حيث يتمنى أن تكون عائلة وأصدقاء الفقيد حاضرين لتخليد ذكراه بين ظهران شعب أحبه وهو ممتن له إلى الأبد. مرة أخرى، تعازي الحارة، آلين، مانويل وباقي أفراد العائلة. ألمنا هو ألمكم، لكن الأهم أننا نفتخر معكم بأن وهبتنا الحياة فرصة التعرف وصداقة رجل استثنائي كجيل دوفير. أشكركم جميعا