أبي بشراي البشير ممثل جبهة البوليساريو بسويسرا ولدى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية بجنيف
عادت القضية الفلسطينية الى واجهة الأحداث بقوة منذ 07 أكتوبر 2023 في إطار عملية “طوفان الأقصى” في قطاع غزة والتي، بغض النظر عن الاختلاف في الآراء حيال الخطوة وتبعاتها، أعادت القضية الفلسطينية الى واجهت الأحداث بقوة، وتمكنت في ظرف قصير من إجهاض مسار التطبيع العربي المخزي مع إسرائيل وإقباره، بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من إسقاط الدولة العربية الأهم من الناحية الاقتصادية والرمزية الدينية في فخه. بعد حوالي ثمانية أشهر، وبالرغم من الثمن الباهظ وحرب الإبادة البشعة، يقف العالم اليوم على حقيقة أن السلام لكي يكون دائما لا بد أن يكون عادلا، وأن الالتفاف على حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة، من خلال مسار “أوسلو” الموقع برعاية الولايات المتحدة 13 سبتمبر 1993، لم يكن ليؤسس للسلام المرجو، بل العكس؛ المزيد من الحيف والاستيطان والقتل. لقد كان 07 أكتوبر 2023، النتيجة الحتمية لعجز المجتمع الدولي عن تحمل مسؤوليته والإيفاء بالتزاماته تجاه الشعب الفلسطيني ومحاباته لإسرائيل وتمكينها من “الإفلات من العقاب” بشكل دائم. اليوم، هناك حراك دولي غير مسبوق للدفع بالاعتراف بالدولة الفلسطينية وتكريس عضويتها بشكل كامل في الأمم المتحدة، وهو ما عكسته عزلة الأقلية ممن تبقى من مؤيدي إسرائيل داخل مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة خلال عمليتي التصويت داخل المجلس في 19 أبريل 2024 وبالجمعية العامة في 10 ماي 2024.
أكبر رجعٍ لصدى “طوفان الأقصى” تم تسجيله في الصحراء الغربية، إذ يبدو الآن أن وعيا تدريجيا بدأ يتشكل لدى الفاعلين الدوليين حول خطورة استمرار انسداد مسار التسوية الأممية، خاصة وأن الأوضاع الميدانية منذ 13 نوفمبر 2020، تاريخ عودة المواجهات المسلحة وانهيار وقف إطلاق النار، تحمل نذر انزلاقات محتملة في أي وقت. وفي الحقيقة فإن، 13 نوفمبر الصحراوي لم يكن سوى 07 أكتوبر الفلسطيني، بعد أن ضاق الصحراويون ذرعاً بعجز مجلس الأمن الدولي عن فرض الحل العادل والوفاء بالتزاماته تجاه الشعب الصحراوي، ومحاباته التي شجعت المملكة المغربية على مواصلة العرقلة والتمرد على جميع القرارات والشعور بإمكانية الإفلات من العقاب بشكل دائم، تماما كما هو الحال بالنسبة لإسرائيل. وكما كان الأمر بالنسبة ل07 أكتوبر في فلسطين، فقد قاد 13 نوفمبر في الصحراء الغربية الى إجهاض مسار سلبي داخل مجلس الأمن الدولي كان يتجه بشكل تدريجي الى تجاوز حق الشعب الصحراوي في تقرير المصير والتأسيس لمقاربة داعمة لمقترح المغرب المتعلق بالحكم الذاتي. مقترح وُلد ميتاً وهو، في النهاية، ليس سوى “النسخة الصحراوية” من “مسار أوسلو” بهدف تشريع الاحتلال.
التقاطع الحالي بين مساري المقاومتين في فلسطين والصحراء الغربية والمترتب عن استعادة الشعبين زمام المبادرة الميدانية من خلال 13 نوفمبر 2020 و07 أكتوبر 2023، ليس سوى تجليا للتشابه، بل التطابق أحيانا، بين القضيتين في العديد من النقاط بالرغم من اختلاف السياقات التاريخية والإقليمية؛
الادعاء بحقوق تاريخية ودينية: في كلتا القضيتين، يتأسس المشروع الاستعماري على الادعاء بحقوق تاريخية – دينية، فدولة إسرائيل في فلسطين “تجسيد لوعد إلهي توراتي”، وفي عمق العقيدة الصهيونية حدود اسرائيل لا تقف عند حدود فلسطين المعروفة، بل تتعداها لتشمل كل الجغرافيا التاريخية لليهود (إسرائيل الكبرى) والتي تصل الى المدينة المنورة وخيبر. أما المغرب فهو يؤسس مشروعه التوسعي كذلك على مطالب تاريخية مزعومة، مدعيا وجود سيادة سياسية ودينية لسلاطين المغرب على الإقليم، وهو ما دحضته محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري (16 أكتوبر 1975). وكما هو الحال بالنسبة لإسرائيل، فخارطة المطالب الترابية في عمق عقيدة المخزن لا تقف عند حدود الصحراء الغربية، بل تتعداها لتصل الى السنغال جنوبا مرورا بكل دول الجوار (المغرب الكبير).
الاحتلال العسكري: بالنسبة للقانون الدولي فإسرائيل تحتل عسكريا الأراضي الفلسطينية (حدود 1967) وهي مطالبة بالانسحاب منها، بناء على عديد كبير من القرارات وأبرزها قرار مجلس الأمن الدولي 242 (1967) الذي شكل علامة فارقة في هذا الصدد.
نفس الأمر ينطبق على المغرب باعتباره قوة احتلال منذ دعوة مجلس الأمن الدولي المغرب لسحب المشاركين في المسيرة الخضراء من الإقليم بشكل فوري 380 (1975) وانتهاء بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يصف المغرب بقوة احتلال في الصحراء الغربية 35/19 (1980).
قوتا الاحتلال العسكري، إسرائيل والمغرب ملزمتان بتطبيق مقتضيات القانون الإنساني الدولي في فلسطين والصحراء الغربية.
الحق في تقرير المصير: والذي يعتبر ركنا مؤسسا في القانون الدولي وفي ميثاق الأمم المتحدة، حيث تم إقرار ممارسة هذا الحق بالنسبة للشعبين من طرف المجتمع الدولي بشكل مستمر وممنهج، خاصة منذ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة حول “حقوق الشعب الفلسطيني” 3236 (1974)، ومنذ منتصف ستينات القرن الماضي بالنسبة للشعب الصحراوي. الحق في تقرير المصير وممارسته بشكل حر دون تدخل أجنبي هو السبيل الوحيد لإقرار تسوية سلمية عادلة ونهائية.
الممثل الشرعي والوحيد: بموجب نفس القرار، 3236 (1974) للجمعية العامة للأمم المتحدة، تم الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني وتم منحها مركز مراقب في الأمم المتحدة، بناء على قرار صادر نفس السنة من المنظمة الجهوية (الجامعة العربية)، كما تنص على ذلك لوائح الأمم المتحدة.
وهو وضع حافظت عليه المنظمة لاحقا، حتى بعد استبدال المنظمة ب “فلسطين”، بموجب القرار 177/43 (1988).
أما جبهة البوليساريو، فقد بدا من الواضح للعالم انضواء الشعب الصحراوي تحت لوائها بناء على تقرير بعثة تقصي الحقائق التي أوفدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة (12 أكتوبر 1975)، وهو ما تكرس لاحقا، وإلى اليوم من خلال قراري الجمعية العامة للأمم المتحدة 37/34 (1979) و 19/35 (1980) وما تلاها من قرارات لاحقة على مستوى الأمم المتحدة، الاتحاد الافريقي ومحكمة العدل الأوروبية، والتي تؤكد في مجملها على صفتها كممثل شرعي ووحيد للشعب الصحراوي.
اللجوء والاستيطان: في كلتا الحالتين تم إجبار جزء كبير من الشعبين الفلسطيني والصحراوي على مغادرة بلديهما هربا من حملات القمع والتقتيل التي رافقت علميات الاجتياح في الحالتين. اليوم، يوجد الكثير من الفلسطينيين والصحراويين لاجئين في مختلف أنحاء العالم، خاصة في دول الجوار وتشكل عودتهم الكريمة الى وطنهم نقطة جوهرية في أي مسار تسوية سلمية.
بالمقابل فقد عملت إسرائيل والمملكة المغربية، منذ اليوم الأول على تغيير التركيبة الديمغرافية للإقليمين عن طريق تبني سياسة استيطان وحشية واستيلاء بالقوة على أراضي الشعبين.
والاستيطان جريمة بموجب القانون الإنساني الدولي، ومع ذلك فقوتا الاحتلال ما زالتا تتوسعان في تلك السياسة وتشجعانها.
وفيما يتعلق بالصحراء الغربية تحديدا، فالمغرب، خلال السنوات الخمس الأخيرة، رفع من وتيرة تلك السياسة وانتزع عنوة من الصحراويين أراضيهم ويقوم بإطلاق مشاريع استثمارية كبيرة لتشجيع الاستيطان وربط اقتصاد بعض الدول الأوربية، خاصة فيما يتعلق بالطاقة المتجددة، بالاحتلال كواقع. وفي كلتا الحالتين يتعرض الشعبان الصحراوي والفلسطيني لسياسة تمييز وفصل عنصري وتفقير ممنهج.
الجدار الفاصل: حيث أقامته المملكة المغربية مطلع ثمانينيات القرن الماضي على مراحل لحماية المدن الواقعة تحت الاحتلال بعد تمكن الجيش الصحراوي من نقل الحرب الى داخل المغرب في حدوده المعترف بها دوليا. جدار عسكري على طول أكثر من ألفي كلمترا، يحرسه حوالي 160.000 عسكريا، بالحفر والأسلاك الشائكة ورادارات المراقبة، ووضع الصحراء الغربية على قائمة العشر دول الأكثر تلوثا بالألغام بعد زرع المغرب لحوالي 10 مليون لغم من مختلف الأنواع على طول هذا الحزام الذي يقسم الإقليم والأهالي الى قسمين ويشكل، بحد ذاته، جريمة إنسانية مكتملة الأركان.
أما في فلسطين، فقد شرعت إسرائيل في بناء الجدار في 2002 في ظل انتفاضة الأقصى، ومع نهاية عام 2006 بلغ طوله 402 كلمترا من السياجات وطرق الدوريات، ويمر بمسار متعرج حيث يحيط بمعظم أراضي الضفة الغربية لإعاقة حياة الفلسطينيين والتأمين على المستوطنات.
هذا الجدار صدر بحقه رأي استشاري من طرف محكمة العدل الدولية بتاريخ 09 يوليوز 2004 يقضي بعدم شرعيته، تماما كما كانت قد أصدرت نفس المحكمة رأيا استشاريا يبطل المطالب المغربية في الصحراء الغربية بتاريخ 16 أكتوبر 1975.
السيادة على الثروات الطبيعية: حيث يقر القانون الدولي للشعبين الصحراوي والفلسطيني سيادتهما على الثروات الطبيعية لبلديهما المحتلين إنطلاقا من تمتعهما بالحق في تقرير المصير، التي تشكل تلك السيادة أحد مكوناته الأربعة الرئيسية. ولعل التجلي والتكاملية الأكثر وضوحا في هذا الصدد، هو ما يحدث أمام محكمة العدل الأوروبية، حيث شكل قرار محكمة العدل الأوربية الصادر يوم 25 فبراير 2010 (قضية بريتا)، والذي يؤكد أن الاتفاق الاطار الذي يربط إسرائيل بالاتحاد الأوروبي والمتعلق بالأفضلية الجمركية لا يجب أن يشمل المنتجات القادمة من الضفة الغربية المحتلة، شكل الإطار والسابقة القانونية التي شجعت جبهة البوليساريو الى الشروع في مسار تقاضي أمام محكمة العدل الأوروبية لإبطال الاتفاقيات الموقعة بين الاتحاد الأوربي والمملكة المغربية والتي تشمل الصحراء الغربية المحتلة.
لاحقا، شكلت قرارات المحكمة التاريخية حول الصحراء الغربية 2016، 2017، 2018 و2021 مكسبا كبيرا بالنسبة للفلسطينيين استفادوا منه لتعزيز مكسب حظر منتجات المناطق المحتلة والمستوطنات.
إعلان الدولة: لتعزيز المقاومة وتقوية مكاسبها الدبلوماسية والتأكيد على الاستقلال الوطني كمطلب وحتمية تاريخية، عمدت حركتا التحرير في الصحراء الغربية (جبهة البوليساريو) وفي فلسطين (منظمة التحرير) إلى إعلان الدولتين من المنفى.
جبهة البوليساريو أعلنت الجمهورية الصحراوية يوم 27 فبراير ،1976 يوما واحدا بعد جلاء آخر جندي اسباني من الإقليم، فيما أعلنت منظمة التحرير الدولة الفلسطينية يوم 15 نوفمبر 1988، أثناء انعقاد الدورة ال19 للمجلس الوطني الفلسطيني.
فيما يتعلق بالحدثين فللمكان رمزية خاصة، فكلتا الدولتين أعلنت من الجزائر العاصمة، وإلى اليوم تلعب الجزائر دور رأس الحربة إقليميا ودوليا في المرافعة عن حق الشعبين في إقامة دولتيهما. تشترك الدولتان في عنصر الإعتراف الدولي الجزئي بهما إلى حد الساعة، وإن تمكنتا من حصد العضوية الكاملة في منظمتيهما الجهويتين؛ الاتحاد الافريقي بالنسبة للجمهورية الصحراوية وجامعة الدول العربية بالنسبة لدولة فلسطين.
القوى المعادية والقوى الداعمة؛ مع تسجيل اختلاف في التفاصيل، إلا أن المشهد في كلياته يوحي بموقف سلبي لغالبية القوى الغربية النافذة من نضال الشعبين، فيما يحظى الشعبان بالدعم القوي وغير المشروط من طرف دول بخلفية تحررية من مثل العديد من الدول الافريقية وعلي رأسها الجزائر وجنوب افريقيا، بالإضافة الى العديد من دول أمريكا اللاتينية التي تحكمها حكومات تقدمية مثل كوبا، فنزويلا، كولومبيا وبوليفيا… الخ.
وحتى على مستوى حاضنة التضامن الشعبي عبر العالم فهي نفسها، إذ أن الوجوه البارزة في حركات التضامن مع الشعب الفلسطيني عبر العالم هي نفسها المتضامنة مع الشعب الصحراوي.هذا التشابه – التطابق بين القضيتين أدى الى تقاطع مسارات كفاح الشعبين في العديد من المراحل وأبزها المرحلة الحالية.
بالمقابل، قاد كذلك الى تسريع وتيرة ارتماء قوتي الاحتلال في أحضان بعضهما والذي كرسته عملية التطبيع المهينة في إطار ما عرف اصطلاحا باتفاقات آبراهام ، والتي كان عرابها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي قايض (إعطاء من لا يملك لمن لا يستحق) اعترافه اللاشرعي بسيادة المغرب على الصحراء الغربية باعتراف الرباط بإسرائيل وربط علاقات دبلوماسية معها، وهو ما أفضى الى إعلان تل أبيب هي الأخرى، في خطوة “لا حدث بامتياز” الاعتراف للمملكة بالسيادة على الصحراء الغربية.
وأمام التحديات الراهنة وضغط المنعرج المفصلي الحالي الذي تمر به القضيتان، وتجذر وتنوع مناحي التحالف والتآمر المشترك بين إسرائيل والمغرب (وجود عسكريين مغاربة في الجيش الإسرائيلي وعسكريين إسرائيليين في الصحراء الغربية المحتلة)، تقتضي المسؤولية والوعي الوطني أن يضع الفلسطينيون والصحراويون، على المستويين الرسمي والشعبي، اليد في اليد والسير المظفر معاً نحو تحقيق الحرية والاستقلال، واستغلال الفرص الماثلة في معسكر العدو المشترك. ففي إسرائيل، تفقد الدولة هيبتها ووهم القوة الخارقة، ويتآكل العقد السياسي – الديني بشكل غير مسبوق، يتمزق التحالف الحاكم ويقف نتنياهو مترنحا ما بين السقوط بسبب ضغط الشارع أو السقوط بفعل مذكرة التوقيف الدولية.
وفي المغرب، مؤشرات التنمية الاقتصادية والبشرية وحجم المديونية الخارجية والداخلية وعجز الموازنة تتجاوز كل الخطوط الحمر محدثة قطيعة اقتصادية بين الشعب والدولة بعد تأكد سيطرة أوليغارشيا المخزن برئاسة رئيس الحكومة عزيز آخنوش على مقدرات الشعب.
بالتوازي مع ذلك تتعمق القطيعة السياسية مع النظام على خلفية التطبيع مع إسرائيل وخيانة الشعب الفلسطيني، وهي قطيعة تتعمق على وقع المجازر التي ترتكب في غزة.
قوتا الاحتلال العسكري في إسرائيل والمغرب تمران بلحظة تاريخية فارقة من التناقضات الداخلية، شبيهة بالتي مرت بها فرنسا نهاية الخمسينات قبيل التسليم بحتمية استقلال الجزائر، أو التي مر بها نظم التمييز العنصري في جنوب افريقيا نهاية الثمانينيات قبل إطلاق سراح مانديلا والاذعان لإرادة الأغلبية المقهورة.
ولكي يعيد التاريخ نفسه في فلسطين وفي الصحراء الغربية، لابد أن يعي الشعبان، حق الوعي دقة الظرف بمخاطره الجمة وفرصه السانحة لإقرار خارطة الطريق المتجددة الكفيلة بتسريع مسار الحتمية التاريخية المتمثلة في هزيمة الاحتلال وانتصار إرادة الشعوب.